بقلـم نايف المطوع
26 سبتمبر/أيلول 2008
مدينة الكويت – يسود في العالم العربي اعتقاد مبني على حقيقة لا تشوبها شائبة، مفادها أنه من الأفضل قراءة القرآن الكريم بلغته العربية الفصحى الأصلية. ولكن هل يشكل الحفاظ عليه مُغلقاً أمام المزيد من الترجمة والتفسير دعماً لمشيئة الله تعالى أم أنه يطمسها ويكتم عليها؟
يعتقد الكثيرون أن ما يميّز القرآن الكريم عن غيره من الكتب المقدسة هو أن قِيَمه ومعانيه لا تضيع في الترجمة، رغم أن الكلمة تفقد أبعادها الحقيقية عندما تتم ترجمتها. ولكن هل هذا هو الحال فعلاً؟ ألا نستطيع كذلك النقاش بأنه عند ترجمة الكلمة إلى مائة لغة، فسوف تعبّر عن المزيد من الأبعاد؟
يحدّد القرآن الكريم ويعرّف نفسه بنفسه. وقد يكون ذلك أقل اكتمالاً باللغة السويدية عما يكون عليه بالعربية، إلا أنه بالتأكيد سيكون ذو قيمة أكبر بكثير بالنسبة للسويديين. لا يستطيع المرء وضع مبادئ وقيم الخير والطيبة رهينة للكمال.
تتعلق الحياة كلها بالمساحات الرمادية. عندما نشأت لم أكن أعرف بشكل مؤكد أين أنتمي في عالم الدين. كان يجري تدريس الدين في العالم العربي دائماً بناءً على القيم المطلقة والثابتة. ورغم أنني لم أكن أعرف الكثير عندما كنت صغيراً، إلا أنني كنت أعي أنني لا أستطيع العيش في عالم الأبيض أو الأسود، عالم "إما هذا أو ذاك". وقد تم إيضاح ذلك لي في خطبة ألقاها إمام شاب كان يدرس للحصول على شهادة الدكتوراه من كلية هارفرد للعلوم الدينية.
قال الإمام طلال عيد موجهاً حديثه لمجموعة من الطلبة المسلمين: "إذا سألتموني ما إذا كان استيفاء فائدة مالية يعتبر حراماً في الإسلام، فسأقول لكم نعم، وسوف أستشهد بآية أو سورة من القرآن الكريم لبرهان ذلك".
استمر الإمام في حديثه بعد وقفة طويلة. "ولكنني لو لم أسدد أقساط سيارتي التي اشتريتها بقرض مالي لما استطعت القدوم اليوم لمخاطبتكم عن الإسلام".
استطاع هذا الأمام، من خلال ذلك المثال المعبّر بين القيم المطلقة والنسبية، أن يحفر مكاناً وموقعاً في عالم التسامح والتسوية بالنسبة لي. جعلني أشعر بالأمان في أن أكون الحاكم على أعمالي وتصرفاتي، وأن أضع الخطوط التي سأسير فيها حسب إيقاعي الخاص. جعل من السهل لي أن أضع القوانين الخاصة بي، مستخدماً الدروس التي تعلمتها بالقلب والعقل اللذين وهبهما الله تعالى لي. لا يستطيع أحد أن يجبرني على الابتعاد عن واجبي كمسلم من خلال الإصرار على أن هناك سبيل واحد فقط لأعيش حياتي وأمارس عقيدتي.
يبدأ التسامح في غرف الدراسة. يبدأ التسامح عندما يُسمَح لنا أن نقرأ أي نص من أي مصدر وبأي ترجمة، وأن نعرض آراءنا. يولد التسامح عندما تكون هناك آراء عديدة بعدد الناس، وعندما تكون سلطة المنطق هي التي تفرّق بين الجيد والرديء. في نظام التعليم العربي، تكافأ قوة الذاكرة والتكرار بشكل يزيد عن الحد، بينما تؤنَّب سلطة المنطق.
نحصل على علامة كاملة في مدارسنا إذا استطعنا حفظ تعاليم شخص آخر، ونحصل على علامة راسبة إذا تجرأنا على تحليل تلك التعاليم. الأسوأ من ذلك أنه يمكن وصمنا بالكُفر. سمعت الكثيرين يقولون بفخر، إنه يتوجب على المرء أن يُثَمّن التكرار ويرجّحه على استخدام العقل. ولكن لو أرادنا الله تعالى أن نكون كالببغاء لأعطانا ريشاً ومناقير بدلاً من العقول والعزيمة الحرة المستقلة.
نحن بحاجة لأن نسير قدماً.
ساعد عصر النهضة في أوروبا على كسر سيطرة هؤلاء الذين فضلوا التكرار على المنطق، ولعب الفن دوراً هائلاً في تلك الثورة. وفجأة بدأ تشجيع الناس على التعبير عن آرائهم بالفن ومناقشة آثاره وجوانبه. في هذه الأثناء، اقتصر الفن في منطقتنا الصحراوية إلى حد بعيد وحتى فترة ليست ببعيدة، على فن الخطوط العربية الجميلة في كتابة القرآن الكريم.
رغم جمال فننا لم تترك معانيه مجالاً لانفتاح التفسير. كيف يمكن للمرء أن يعلّق؟ لا أحب اللون الأرجواني في تلك الآية؟ ربما كان يتوجب على الكاتب أن يستخدم حرفاً أكبر؟
سألت ابني حَمَد البالغ من العمر عشر سنوات ذات مرة عن رأيه بلوحة الموناليزا لليوناردو دافنشي. قال أنه يحب ابتسامتها، ولكن ليس ألوانها. "إنها داكنة جداً" قال حَمَد.
سألته بعد ذلك عن رأيه بلوحة جميلة من الخطوط القرآنية تشرّف جداراً في منزلنا. نظر إليها وسألني ماذا أعني. أجبته: "لقد أخبرتني لتوك يا حمد عما تحب ولا تحب في لوحة الموناليزا. لماذا لا تستطيع أن تخبرني الشيء نفسه عن القطعة الفنية هذه؟"
نظر إلي بارتباك وقال "إنه القرآن الكريم. هي جميلة بالطبع". هي كذلك بالتأكيد. ولكن ذلك خارج عن الموضوع. سوف يكتشف يوماً ما، مستخدماً قدراته الذهنية الخاصة، سبب جمالها.
###
* الدكتور نايف المطوع هو مؤسس "The 99"" وهي مجموعة اشتهرت عالمياً من كبار الأبطال حسب النماذج الإسلامية البارزة. لمزيد من المعلومات يرجى زيارة الموقع www.the99.org. كتب هذا المقال لخدمة Common Ground الإخبارية.
مصدر المقال: خدمة Common Ground الإخبارية، 26 أيلول/سبتمبر 2008
www.commongroundnews.org
تم الحصول على حقوق نشر هذا المقال.