بقلم: نايف المطوع
كانت الأورام تزداد منذ عرفته، وكانت تنتشر أينما أمكن، معرقلة بذلك أي جهد لخفض حجمها وعددها. فهي راسخة ومحصنة في نسيج مجتمعنا، تستنزف أي موارد لتبقى متنامية وعلى قيد الحياة. أراد الدكتور جعفر بهبهاني يائسا إيقافها، لكنه كان يعلم أن أورام اللاحتراف لها أجندتها الخاصة بها.
إن الأورام التي رآها كانت كارثة غير مرئية يشهدها أضعف الناس. وتُضَاعِف من ضحاياها من خلال المشاكل النفسية التي يسببها قطيع كبير وغير منظم من الأخصائيين النفسيين الزائفين الذين يعرضون المشورة النفسية تحت عشرات الأوصاف الذاتية المختلفة.
قضى ساعات لا حصر لها في كلية الطب بجامعة الكويت، مستثمرا وقته الشخصي في إصلاح الأضرار التي خلقها من هم أقل وزنا بيننا. لم يكن يطلب قيمة الاستشارة من مرضاه. ولكن الضرر الحاصل من الأورام النفسية الغير مرئية تضاعف بسرعة تفوق قدرة رجل واحد يأمل في إصلاحها. لذلك استبق الدكتور جعفر بتفكيره جيلا كاملا. كان يرغب بالفوز في صراعه هذا من خلال تجنيد محترفين شباب ليشكلهم على أخلاقيات صورته الخاصة. كنت واحدا من هؤلاء المجندين. كان البعض منا من المتمردين الباحثين عن قضية. لكن من كان يقدر أن يقول "لا" لرجل مثل الدكتور جعفر؟ من كان يقدر أن يقول "لا" للرجل الذي كنا، كطلبته، نرغب أن نصبح مثله؟
في أحد الأيام، فاجأني في حجرتي، حيث كنت أكتب في وقت فراغي، وكان قد انتهى لتوه من رؤية مريض في مكتبه. كنت أعمل بشكل محموم على ما سيصبح أول كتاب مصور للأطفال حول تعريف أنفسنا عن طريق ما يجعلنا متساوين، وليس ما يفصل بيننا. كان فضوليا. كنت في 24 من عمري وساذجا، وميالا بالكامل إلى العاطفة أكثر منها إلى المنطق. قلت له إني سأغير الكويت من خلال كتاباتي، التي لم تكن ساعتها أكثر من بعض الشخبطات و الكلمات.
وقال:"واو!". "تغيير الكويت؟ ولماذا لا تغير العالم؟ أحب ذلك! "
كان يحب الكثير من الاشياء. وكانت لديه موهبة خاصة في جعل الناس يشعرون أنهم مميزون بما هم عليه و ما يفعلونه.
منذ سنتين قررنا التعامل مع هذه الأورام الغير مرئية. ووضعنا خطة لتغيير مشهد علم النفس في الكويت. أطلقت عليها أسلوب مركز سلطان للخدمات النفسية. قبل مركز سلطان، كانت محلات السوبرماركت في الكويت رديئة للغاية. إلى أن جاء آل سلطان فبنوا أفضل سوبرماركت في الكويت، مما اضطر ما تبقى من محلات السوبر ماركت إما إلى التغيير أو الخروج من قطاع الأعمال. وكان ذلك ناجحا.
كان الدكتور جعفر يكره التشبيه.
ولذلك قررنا تقسيم المسؤوليات. سأكون مسؤولا عن جانب الأعمال، فيما سيكون هو مسؤولا عن الجانب الفني. كان على العيادة أن تبدو مثل هندام الدكتور جعفر في بساطته وأناقته، وتعكس منظر شخص محترف بالكامل ومرتاح مع ذاته. كان كل شيء يسير بسلاسة إلى أن اتصل بي ذات يوم في أكتوبر من عام 2008، طالبا مساعدتي في اختيار لون طلاء الجدار. وقلت له لا أعتقد أنك تريد أن أقوم بذلك. فرد علي بأنه يجب علي أن أكون قادرا على التعايش مع الألوان. كان في الواقع يوجه لي رسالة، ولم تكن عن الألوان. كنت أرى ذلك في عينيه. وأي سؤال من عندي كان سيقابله بالصمت، وربما بابتسامة. فقد تقاسم معي كل ماكان يود تقاسمه.
في الأسبوع التالي حصل على اجازة تغيب من كلية الطب وذهبت لمقابلته. وقال لي:"إنه حلقي" وبعد أن سعل أضاف:" يؤلمني حلقي جدا." وسافر بعدها إلى الخارج للعلاج. في الوقت الذي كان يخطط فيه لإزالة الأورام الغير مرئية التي استقرت في مهنته، وجد نوع آخر من الأورام طريقه إلى جسده. لم يكن الأمر يتعلق بحلقه بقدرما كان يتعلق بحمايتي.
كنا نتحدث يوميا إلى أن بدأ العلاج، وبعد ذلك اقتصر حديثنا فقط على عطل نهاية الأسبوع، إلى أن تضاءل الأمر وصارت أخباره تأتيني فقط عبر عائلته عندما أصبحت حتى الكلمات صعبة عليه. والله وحده يعلم ، كم كانت صعبة لأي واحد منا.
افتتحت عيادتنا أبوابها في شهر مايو. ولم يكن حاضرا هناك، لكنني التقط صورا وتقاسمت معه دهشة تدفق المرضى في الأشهر الأولى. كان سعيدا للغاية، وعبر عن ذلك بطريقته الخاصة "واو!". أخيرا بدأت أورام اللاحتراف التي كان يحاربها لسنوات في التقلص. وكان يتجه نحو الفوز في تلك الحرب. لكن كان هناك ورم آخر ينمو في جسده بصمت من دون شك. بعدها دخل في غيبوبة.
رأيت الدكتور جعفر للمرة الاخيرة في شهر يوليو الماضي. وكان قد استيقظ من غيبوبته، ولكنه كان يجد صعوبة في البقاء مستيقظا. انخفض كلامه إلى عدد قليل من الكلمات. حاولت أسرته إبقاءه مستيقظا من خلال مشاهدة التلفزيون. لكنه في آخر المطاف كان يغلق عينيه. اقتربت من سريره مع حاسوبي المحمول لأريه صور أطفالي الذين كان دائما يعاملهم كأنهم أطفاله. احتفظ بعينيه مفتوحتين. وبعد ذلك اظهرت له مقطع من رسوم ال 99 المتحركة التي كان يشجعها على مدى سنوات. شاهده إلى نهايته، و قال: "واو!". وحتى وكلماته قليلة جدا، فقد كانت "واو" من بينها. حتى عندما كان يحتضر كان مشجعا لي. كنت ومازلت ال"واو" يا دكتور جعفر.
وافت المنية الدكتور جعفر بهبهاني يوم الجمعة 7 أغسطس 2009. ولكن قبل ذلك، خطى خطوات عملاقة في تحدي الأورام التي لا تحصى، والتي يعاني منها الكثير من الكويتيين الذين كانوا فريسة أولئك الذين يتصيدون الضحايا لدى انعدام الأمن عند الآخرين. ولكن في النهاية، لم يكن قادرا على مصارعة الورم الحقيقي الذي أصاب جسمه. ولعل إحساسي هو واحد من أكثر الأحساسيس المؤلمة في فقدان شخص أقرب ما يكون لي مثل الدكتور جعفر. كان تشجيعه لي مطلقا، وكان إحساسه بالانبهار معديا، واحترافيته لا مثيل لها، وحبه وفيرا، وقدرته على التدريب والدعم والترغيب غاية في الإلهام. كان واحدا من أكثر الناس المذهلين الذين دخلوا حياتي. فأنا أدين بالكثير مما أنا عليه الآن لحبه ودعمه.
دكتور جعفر... جعفر... إن كنت تسمعني، أريد أن أقول لك أن حنجرتي تؤلمني، تؤلمني جدا.
أفتقدك